غسّان كنفاني إلى الأبد | فصل

«غسّان كنفاني إلى الأبد»

 

صدر عن «مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ» كتاب «غسّان كنفاني إلى الأبد»، للكاتب الفلسطينيّ محمود شقير، بالتعاون مع وزارة الثقافة الفلسطينيّة و«ملتقى فلسطين للرواية العربيّة»، وذلك تزامنًا مع مرور خمسين عامًا على اغتيال غسّان كنفاني.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الكتاب بإذن من الكاتب.

 


 

«المحرّر»

أمضيت النهار التالي متنقّلًا من مكان إلى آخر في بيروت، تناولت طعام الغداء في مطعم يقدّم وجبات شهيّة من اللحم المشويّ والسلطات والمخلّلات والتبّولة اللبنانيّة، ثمّ ذهبت بعد العصر إلى مكاتب صحيفة «المحرّر». كان غسّان قد قطع شوطًا غير قليل في انتمائه لـ «حركة القوميّين العرب» الّتي ظهرت إلى حيّز الوجود بعد نكبة 1948 واضعة في رأس أهدافها النضال من أجل تحرير فلسطين.

أقنَعَهُ بالانضمام إليها قائدها الأوّل الدكتور جورج حبش، فانتسب إليها في سنّ مبكّرة، وكان يحمل في قلبه جرح التشرّد من البيت ومن مدينة عكّا الّتي ولد فيها، ومن مدينة يافا الّتي انتقل والده مع أسرته للعيش فيها ولممارسته مهنة المحاماة.

كان غسّان يحمل أيضًا هموم مئات الآلاف من أبناء شعبه الّذين شُرِّدُوا من مدنهم وقراهم في فلسطين، وكانت أخبار المذابح الدامية الّتي يتداولها الناس وهم يغادرون المدن والقرى غير بعيدة عن أسماع الطفل غسّان الّذي كان يعي كلّ شيء من حوله.

غادر يافا مع أفراد أسرته حين تطاول عليها العدوان، وعادوا للإقامة في عكّا الّتي لم تسلم من رصاص الأعداء، فاضطرّوا للهجرة إلى لبنان، وصلوا مدينة صيدا، وأقاموا فيها بعض الوقت، ثمّ امتدّت بهم هجرة اللجوء إلى دمشق، الّتي أنهى غسّان دراسته الثانوية في مدارسها، ثمّ عمل مدرّسًا في مدارس «وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيّين» فيها، أثناء ذلك التحق بـ «جامعة دمشق» لدراسة الأدب العربيّ، وفي نهاية السنة الثانية فُصِلَ منها لأسباب سياسيّة، وفي العام 1955 سافر إلى الكويت، وكانت شقيقته الكبرى فايزة سبقته إلى هناك، وبعد بضع سنوات أمضاها في الكويت غادرها إلى بيروت عام 1960 للعمل في الصحافة بناءً على اقتراح من الدكتور جورج حبش.

انضمّ إلى أسرة تحرير مجلّة «الحرّيّة» الناطقة باسم «حركة القوميّين العرب»، ثمّ عمل في صحف ومجلّات عدّة، وكان قد نشر من قبل قصصًا ومقالات في بعض صحف دمشق والكويت.

تألّق غسّان في بيروت، وكان عام 1965، حين زرته في صحيفة «المحرّر»، رئيسًا للتحرير فيها، ومشرفًا على «ملحق فلسطين»، الّذي أسهم في نشر الوعي بالقضيّة الفلسطينيّة، وكان غسّان يكتب قصصًا ومقالات تنشرها له صحف أخرى ومجلّات.

زرته في مكتبه، وكان يُصْرِّفُ من موقعه في المكتب كلّ التفاصيل الخاصّة بالصحيفة، يراجعه المحرّرون للاستيضاح حول بعض القضايا أو يقدّمون إليه بعض الاقتراحات يوافق على بعضها من دون تأجيل، ويدخل في نقاش مرّة حول بعضها الآخر، فيتمّ الرفض أو القبول من دون تعسّف أو مغالاة، وغسّان في تلك الأثناء لا تغيب البشاشة والإقبال على الحياة من محيّاه، ولا يعدم الوقت لإدارة حديث معي حول القدس الّتي كان يتطلّع إلى زيارتها، ليرى سورها العريق وأماكنها المقدّسة وأسواقها المسقوفة، وليكتب عنها وعن الناس فيها، وعن الأثر الّذي تركته نكبة عام 1948 فيها بعد احتلال الجزء الغربيّ منها.

رحّبت به ضيفًا عزيزًا في القدس، وفي نهاية اللقاء وعدني بأنّه سيجد وقتًا للكتابة لمجلّة «الأفق الجديد».

غادرت مكتبه وأنا أكنّ له كلّ ودّ وتقدير واحترام وتبجيل.

 

شكوى

ونحن خارجان من مكتب غسّان في صحيفة «المحرّر»، ارتفع صوت الطفل الّذي في داخلي وراح يتذمّر ويشكو من تقصيري معه. سألته: "أيّ تقصير هذا الّذي تقصده؟".

قال: أنت لم تكتب لي قصّة تشبه «القنديل الصغير».

قلت محاولًا إحراجه فلا يتذمّر ولا يشكو مرّة أخرى:

يا طفلي العزيز، كلّ ما كتبته من قصص مستوحى من دهشتك الّتي تبديها تجاه الأشياء، وكلّ الأطفال الّذين ظهروا في قصصي استوحيتهم من براءة طفولتك، ومع ذلك تتذمّر وتشكو!

صَمَت لحظات، حتّى ظننت أنّه اقتنع بكلامي، ثمّ فجأة عَلَا صوته وقال: يا عزيزي، أنت لا تقول الحقيقة.

انتفضت وقلت: أيّ حقيقة يا طفلي؟

أوقفت سيّارة أجرى نقلتنا أنا والطفل إلى الفندق، أثناء ركوبنا للسيّارة رانَ علينا الصمت. لا أنا تكلّمت ولا هو تلفّظ بأيّ كلام. كنّا نجيل النظر في جمال بيروت، في وفرة البنايات وكثرة الحوانيت المصطفّة على أطراف الأرصفة وفيها سلع شتّى قادمة من مختلف البلدان.

هبطنا من السيّارة، وما إن أغلقت بابها حتّى قال: أنت لم تستفد من دهشتي إلّا على نحو ضئيل.

أصغيت إليه بانتباه: ماذا تقول؟

-لقد سمعتني، ولا حاجة بي إلى تكرار الكلام.

قلت له ونحن ندخل غرفتنا في الفندق: الآن أنا راغب في أخذ قسط من الراحة. قال في تشفّ مقصود: لو كنتَ تستفيد من دهشتي فعلًا، لما استرحتَ الآن.

-وإلّا ماذا كنت تريدني أن أفعل؟

-كنتَ أخرجتَ الدفتر الّذي أحضرته معك ورحت على الفور تكتب انطباعك وانطباعي عن المدينة الجميلة الّتي كنّا قبل لحظات نتأمّلها بانبهار، أو كنت تكتب قصّة من وحي هذه المدينة، ومن وحي غسّان الّذي التقيناه وكان كتلة من فعل وفاعليّة وهمّة ونشاط.

-إممممم.

وبرغم اقتناعي بما قال، فإنّني لم أستجب لملاحظته، كنتُ مرهقًا، تمدّدت في السرير وغفوت في الحال، ويبدو أنّه قدّر حالتي فلمْ يتفوّه بأيّ كلام.

 

مغامرة

تركتهُ نائمًا وغادرت الغرفة. قلتُ لنفسي: ربّما كان مرهقًا بالفعل، وعليّ أن استثمر كلّ دقيقة من وقتي في هذه المدينة.

مشيت على الأرصفة وأنا أتلفّت في كلّ اتّجاه. رأيت نساءً كثيرات يتسوّقن في المحالّ التجاريّة ورجالًا يتسوّقون أو يتنزّهون. مشيت ومشيت ثمّ اهتديت إلى ملعب في أحد أحياء المدينة. كان في الملعب أولاد يتأهّبون للّعب، وحين اقتربت منهم فَرِحوا لقدومي إليهم.

قال أحدهم، وأظنّه كان الحكم: كنّنا ننتظر لاعبًا واحدًا لكي يكتمل عدد الفريقين.

قلت بارتياح: أنا جاهز للانضمام إلى أحد الفريقين.

انضممت إلى الفريق الّذي اختار الجهة اليسار من الملعب، وحين صفّر الحكم معلنًا بدء المباراة، ركضت خلف الكرة كما لم أركض من قبل، كنت متحمّسًا لفريقي، وبعد ثلاث دقائق سجّلَ الفريق الخصم هدفًا في مرمانا، فازددنا تصميمًا على إحراز هدف، وبعد عشر دقائق سجّلت الهدف الأوّل لفريقي. طرت من الفرح وطار لاعبو الفريق من خلفي لكي يعبّروا عن فرحتهم بالهدف. استمرّ اللعب وقتًا زادَ عن الوقت المألوف، أو هذا ما ظننته وأنا أشعر بالتعب، أخيرًا، صفّر الحكم، معلنًا نهاية المباراة الّتي كانت نتيجتها ثلاثة أهداف لصالح فريقنا وهدفين للفريق الخصم.

ودّعت لاعبي الفريقين وعدت إلى الفندق، وكان كاتبي العزيز ما زال يغطّ في نوم عميق.

لم أوقظه، وتوقّعت أنّه سيخبرني حين يصحو من نومه بأنّه ظلّ يحلم بمباراة كرة قدم لوقت طويل. ولن أعلّق على كلامه، بل سأكتفي بالابتسام.

 

 


 

محمود شقير

 

 

 

كاتب فلسطينيّ من القدس. يكتب القصّة والرواية. أصدر سبعة وستّين كتابًا، وكتب ستّة مسلسلات تلفزيونيّة طويلة وأربع مسرحيّات. تُرْجِمَت بعض أعماله إلى لغات عدّة. حاز جوائز عدّة، من بينها «جائزة محمود درويش للحرّيّة والإبداع» (2011)، و«جائزة القدس للثقافة والإبداع» (2015)، و«جائزة دولة فلسطين في الآداب» (2019).